الحجارة .. والجمرات

قصة قصيرة

 

قلب أبو خليل الزيتون الكثير بمغرفة خشبية كبيرة أمسكها بيده ، و بألم قال :

-إلى متى ستستمر هذه الخسائر ؟

-  إلى ما شاء الله تعالى .

 رد أبو عمر بتفاؤل دون أن يلتفت إليه ، ودون أن يغير وقفته خلف باب المحل المقفل من الداخل ،  ينظر إلى ما يجري في الخارج من خلال شق صغير بالباب .

 فجأة ، وبحركة سريعة ألصق (أبو عمر ) عينه تماما بالشق وهو يردد بتحفز.. بفرحة :

_أبو خليل تعال .. لقد وقع جندي آخر بضربة حجر أخرى .. هيا قبل أن يهرب الصبيان الأبطال ..  لله درهم.

زفر زفرة حادة انطلقت من أعماقه .. لم يتحرك من مكانه :

_ آه ..  دعني بالله عليك من هذا .. فبعد قليل  سيمسكون بهم ويطوونهم في أعماق الأرض إلى الأبد ..  يا للخسارة .

مرت فترة صمت .. ارتفع صوته مجددا :

- أبا عمر ..هل ستبقى ملتصقا بالباب كثيرا.

رد دون أن يلتفت إليه :

- إنني معك و أسمعك .

-  انك معي بجسدك فقط .

أكمل وهو يدير حبات المسبحة بين أصابعه :

_ تعال .. فإني أتيتك اليوم رغم الاعتصام لسبب ضروري .

تراجع أبو عمر عن الباب ببطء ، باضطرار :

- العفو .. لم أقصد إهمالك .. لكن .. ما يجري هناك أخذ روحي وعقلي .

أخذ مكانه بجواره  :

-  هـه .. خير ؟

 رد بهيام .. وقد ترقرقت نفسه و انسابت حالمة خاشعة مع دوران حبات و حبات مـن مسبحته :

- إيه .. تعرف كم أنا مشتاق لزيارة بيت الله الحرام .. والحمد لله تحقق الاشتياق بقرب الوصال _صمت وهو مأخوذ بما في داخله - فسفري بعد غد إن شاء الله .

بحلق فيه بذهول :

 -  هل صحيح ما تقول ؟ ..

انقطع انسياب روحه بلحظة .. تحفز .. دافع :

-  و ما الغرابة فيما أقول ..؟

رد بصوت خفيض مشحون بتوتر :

 -  ليس قصدي ، فأنا أعرف أن لك رغبة منذ زمان بعيد بزيارة بيت الله الحرام .. وإنما أسأل هل ستغادرنا في هذه الظروف ..؟

بشدة :

- وماذا تقصد بهذه الظروف ..؟

رد بهدوء أكثر :

-يا أبا خليل لا ادري كيف أشرح لك .. وإنما أظن إن وجودك هنا في هذه الفترة .…

قبل أن يكمل عبارته سمعت أصوات جلبة شديدة من الشارع ، قفز لا إراديا بسرعة البرق ، أصبحت عينه على الشق الضيق ، مرت فترة وهو ملتصق بالباب تماما، أنفاسه تتردد باضطراب متزايد  في جو الصمت المخيم على المحل ؛ فيما الجلبة ترتفع و تعلو في الشارع مع صراخ دوريات الإحتلال ..

قام أبو خليل و هو يهز رأسه يائسا :

-  حسنا .. أنا ذاهب فلدي ما أنجزه قبل السفر .

خطا خطوات صغيرة إلى الباب الصغير المؤدي إلى سكة داخلية ضيقة داخل الحارة . التفت إليه أبو عمر :

-  هل أنت مغادر ؟ ..

-  نعم فلدي ما أنجزه كما قلت لك ..

-  أبا خليل .. هل فكرت جيدا ؟

احتد .. توفز:

_ أداء الفريضة لا نحتاج فيها إلى تفكير أصلا ..

بصوت هادئ :

-  أتمنى لك السلامة .. جعله الله حجا مبرورا وسعيا مشكورا .

ترك الباب .. أسرع نحوه .. احتضنه بحب:

-أتمنى لك عودة -تريث - عودة ميمونة بإذن الله تعالى ..

 قالها وهو يربت على كتفه ، ينظر في عينيه بعطف شديد.

تخلص أبو خليل  من أحضانه .. من عينيه .. استدار وخطا إلي الباب الصغير.

خرج إلى الطريق ، زفر براحه .. فقد أنجز آخر الأوراق الخاصة بسفره إلى الديار المقدسة.. توجه سريعا إلى المدرسة الابتدائية حيث تعمل فاطمة ابنة أخته .. التقاها خارجة من المدرسة بين رفيقاتها و الأطفال الخارجين .

-  فاطمــة .. فاطمــة ..

تلفتت.. رأته .. أسرعت إليه :

-  خالي أنت هنــا ؟

-  نعم فقد انتهيت من جميع الإجراءات وكنت منصرفا إلي البيت ، فقلت آخذك عـلى طريقي .

أكمل بفرحة أكبر :

-  لقد تقرر سفري غدا العصر إن شاء الله .. ستنقلنا حافلة إلي الحدود الأردنية ،  ومن المعبر على نهر الأردن إلي ارض الحبيب عليه الصلاة و السلام ..

أحست اختلاج  صوته  :

-  انك فرح جدا يا خالي ..

وعيناه تزغردان:

-  ومن لا يفرح بزيارة بيت الله ..

كانا يمشيان  .. عيناها مطرقتان إلي الأرض تتنقلان أمام قدميها .. قد بان الوجوم على قسماتها .

باستغراب _

 ما بالك ..؟  هل أنت متعبة ؟

رفعت رأسها قليلا .. :

- لا .. فقط كنت أفكر في التشييع الذي ستقوم به المدرسة غدا

-  تشييع ..‍‍‍!؟ لــم ؟

ردت بألم عميق   :

-  تشييع جثمان الطفل الذي قتل أمس بأحذية أولئك الأوغاد ..

بسرعــة واحتداد :

-  و مالكم انتم  ؟

-  انه من مدرستنا يا خــال ..

اضطرب .. فتح فمه بصوت أعلى   :

-  وهل عملكم هذا سيمنع قتل أطفال آخرين .. ؟

توقفت بغتة .. رفعت رأسها إليه  :

- خالي !؟ ماذا تقول ..؟

باضطراب أكثر:

- نعم .. هل من فائدة لما تفعلون ..؟

-  خالــي ! رددتها بحدة

أكمل بقــوة  :

-  إن الحجر لن ينفعنا شيئا .. القتلى في ازدياد .. المطمورون تحت الأرض في السراديب المعتمة في ازدياد _ اختلجت ملامحه واختنق صوته _ ونحن من سيئ إلى أسوأ .

بحلقت فيه باستغراب .. بذهول ..

-أجيبي .. بيوتنا تهدم بجرافاتهم القذرة فنـرمى في العراء .. جرحانا يموتون وهم يستنجدون قطرة  دواء و ..و..

 توقف بغتة فعيناها مسلطتان عليه بقوة

-  افهميني يا فاطمة .. إني يائس .. يائس .. فالعالم بعيد عنا .. بعيد عنا جدا .. أكثر مما تتصورين .

أكملا الطريق صامتين واجمين ، وصلا المنزل .. قبل أن يدلفاه  .. توقفت عند الباب ، نظرت إليه :

 - خالي  ..

استدار بحنان  :

-  نعم فاطمة ؟

خرج صوتها كأنه من قرار بئر عميقة :

-  خالي - اختلجت شفتاها -هل .. هل ستعود ..؟ اقصد  _  وبصعوبة شديدة _ هل ستستطيع العودة بعد قضائك الفريضة .. ؟

بهت و.. تسمر في مكانه .

                         ------------------------

أسرع باتجاه المدرسة .. لم يبق على تحرك الحافلة إلا ساعتان ، فاطمة لم تعد إلى البيت إلى الآن .. انه قلق .. قلق جدا ، ألم ينته التشييع بعد .. لقد طال ..  لابد قد حدث شئ ، من المؤكد ان الأوغاد  أولاد الأفاعي استغلوا الفرصة وصبوا كل إجرامهم على الأطفال والمعلمات ، لقمة سائغة .. ضربة غادرة . القلق ينهشه .. لا يستطيع الانطلاق دون أن يريح عينيه في وجه فاطمة ، يا الله كن في عونها .. كن في عونهم جميعا . أسرع بخطوه اكثر .. ذهنه شارد تماما ..  تناهت إلى سمعه  رغم حاجز الشرود أصوات متدافعة من الشارع ، قبل أن يدلف إليه ، استرد ذهنه ، أرهف أذنيه ، شم رائحة حرق ، لا بد إنها دورية قذرة تريد الاعتداء ، يواجهها بعض الشباب ، يسدون طريقها بالإطارات المشتعلة.. بالأحجار الكبيرة .

وصل إلى رأس الشارع ، امتصت عيناه منظر الجنود المدججين بالسلاح ينزلون من عرباتهم الحربية ، يطاردون الفتيان الراكضين برشاشات دنيئة ، الفتية يتراجعون بسرعة ، يبحثون عن مكامن لهم , لا بد أن يختبئ هو أيضا , وإلا سيمسكونه .. فغدرهم مستنقع تاريخي قذر .

كمُن وراء أحد البيوت المهدمة حديثا .. وراء كتلة من الجدار المنهار .. أرهف أذنيه .. سمع أصوات الجنود يمسكون بأحد الفتية ، يشبعونه لطما .. رفسا .. ركلا , يا الله سيقتلونه من الضرب . أحس بحركة وراءه ، تجمد في مكانه ، صار أذنين .. سمع همس صبيين .. هيا ..هيا أسرع .. سنخرج لنضربهم .. اجمع بسرعة .. اهدأ عن الحركة الكثيرة .. سيمرون من هنا .. يحملون الفتى معهم .. استعد .. هم قادمون .. كم حجرا معك ؟ .. سبعة أحجار كبيرة ومدببة ، رقم يثير ذاكرتي بقوة .. برائحة .. بعبق مقدس ... انتبه .. جمرة العقبة تقترب !  صوت ضحك خفيف .. يا الله .. صدقت فهم جمرة العقبة  .. سبعة أحجار !! الجمرة الكبرى ؛ جمرة العقبة .

كان واجما مسمرا في مكانه , وجهه يختلج اختلاجات كثيرة ملونة , اغمض عينيه بارتعاشه جفون لا تهدأ ، اهتزت نفسه .. هامت .. ترقرقت  .. رائحة من الذاكرة تحيط به , الرائحة تتشكل بصور لها صدى صوت الصبي الذي يخترقــه , سبعة أحجار , جمرة العقبة, الجمرة الكبرى , الصور تتضح .. تتجسم  ..  تحيط به .. إنها .. إنها .. إنها مكة بشعابها.. برائحتها .. بروحها ..

فتح عينيه باختلاجة , رفع جسمه عن الأرض قليلا , الأوغاد .. الذئاب يحيطون بالفتى المثخن بالجراح,  الدم يسيل من كل أنحاء جسمه , وجهه مليئ !! حملق باضطراب في وجه الفتى .. إنه .. إنه وجه فاطمة !  إنه ملئ بالجراحات .. بالدمــاء ؟

امتدت يده مضطربة إلى الأرض ، تناولت حجرا ، ضمته بأصابع متوترة .. و آخر ..  و ثالثا .. فمزدلفة مليئة بالحجارة مهما اخذ منها الحجاج .

 الجمرة الكبرى .. جمرة العقبة .

 سبعة أحجار .. صوت الصبي ما يزال يخترقه .. يتخلل مسامه .. يدخل عروقه .. يتدافع مع دمه .. يهيج كل خلية من تلافيف روحه المسكونة بحنين جارف .. مقدس . إنهم يجمعونها هنا في مزدلفة .. يرحلون بها إلى منى .. هناك يرمون بها الجمرات .

جمع واحدا وعشرين حجرا صغيرا مدببا في  ثوبه .. تأملها بعينين حانيتين ..  اختلج نداء حالم خاشع بداخله .. سمع صداه يتردد في أذنيه .. ابتسم بحنان .. أصاخ السمع لأذنيه أكثر.. امتلأت أعطافه بالرهبة المقدسة الحنونة , إنه بين المشاعر يهرول برداء و إزار ابيض عاري الرأس ، يؤدي المناسك بسعادة .. بفرحة .. بخفة ..

 قفز إلى جانب الصبيين الصغيرين ، رمى معهما .. رمى حجرا آخر .. أصاب به وغدا في جبهته .. فاضت أعطافه.. و فاضت .. قفز النداء المتردد صداه في قوقعتي أذنيه على شفتيه بقوة .. بزخم ..

_ لبيك!   اللهم لبيك .. لبيك اللهم لبيك .. 

 توحد معه الصبيان و .. آخرون  في رمي قوي .. متناغم .. منسجم .. فشعاب مكة تحيط بهم .. تحنو عليهم  ... تطوى لهم ... يعلو فيها نداؤهم .. قويا .. مزهرا ... متموجا إلى أعلى  .. إلى فــوق ..  الجمرات الثلاث .. تزأر  .. تئن ..تتلوى من الألم .. تكاد تطلق أسيرها المثخن بالجــــراح ...