قصة قصيرة
دخل غرفته بملامح أرنبية مذعورة..
أحكم الباب خلفه بيد مرتعدة ..
تهالك على الجدار بظهره .. أنفاس لاهثة تقطع رئتيه.. سكين جافة تحز في حلقه
..صدره يعلو ويهبط بتتابع لاهث ..
عيناه تسحان دموعا مالحة عـلــى عظمتي وجنتيه الناتئتين .. يبلل بهما شفتيه
الجافتين ويبتلعهما ليخفف حز السكين الجافة في حلقه.
بقي فترة لا يدري إن كانت طويلة أم
قصيرة .. فقد انزلق ظهره عن الجدار ..
تكوّم على الأرض .. يرتعـد بلا نهاية بالحمى ..
رأسه يكاد ينفجر من الصداع والطنين..
لا يكف عن الهرش في أجزاء مختلفة من جسمه بأصابع مرتعشة .
فتح عينيه أخيرا .. حمراوتين كالجمر الملتهب .. ما زالتا تسحان الدموع المالحة بلا توقف
.. بلا صوت.. تختلط بمخاط أنفه المنساب
على شفتيه .
صورة واحدة قبيحة .. مليئة بالقيح
تضغط على دماغه .. تفجر كل الصور المخزونة هناك .. مع مـطارق الصداع التي لا تهدأ ..
رائحة واحدة قوية .. حادة .. كريهة
تسحق خياشيمه .. تنفذ إلى روحـه بقوة .. بعنف .. وتحطم كل الروائح الأخرى ..
يشعر بطعمها النتن في فمه وحلقه مهما حـاول غسلهـما بـريقـه ومخاطه .. ودموعه الحارقة.
لكن أينما دار برأسه الواهن يجدها ويشمها .. فـهي تـحـيـطه.. تغرقه .. تحاصر كل فتحات ومسام جسده ..
إنه غاطس فيها إلى قمة رأسه ..
مختنق بها ..
بينما فضاء الغرفة مشبع بتفاصيل تلك الصورة القبيحة الحادة الصارخة .. التي
رآها قبل قليل عـلى ضـوء بـطاريـته الواهن
.. هناك على سطح ذلك المبنى المشؤوم .
الرائحة النتنة عندما صادفته لدى دخوله ذلك المبنى جعلته يضطرب بشدة
..
لم يتصور كل تلك النتانة عندما رآه هناك ممددا منتفخا كالبالون ..
-
لا.. ارتفع صوته ، صار صراخا في صمت الغرفة
-
لا.. لا أريد
أن أتذكر..
يضرب رأسه في الجدار بقوة .. بعنف
.. ليحطم تلك الصورة .. ليمزقها .. لكن بلا فائدة .. فهو غاطس فيها .
انبثق الدم من رأسه .. تحسسه
بأصابع مذعورة .. معروقة .. لطخ الدم أصابعه .. تأملها بجمرتين ملتهبتين .. مـا
زالتا تسحان ملحا سائلا لاذعا
شمها .. شمها ليتخلص من الرائحة النتنة المنطلقة من تلافيف ذاكرته.
هز رأسه بيأس .. لا فائدة فخياشيمه مازالت مغتصبة بتلك الرائحة الكريهة ..
انهار على الأرض الباردة ..ألـصــق وجهه المبلل بالدموع ببرودتها .
- آآآه .. مازلت معي .. لا تود مفارقتي ..
-لكن صدقني.. صدقني لم أكن أقصد ..
-لم يكن لدي ما أفعله لك غــير تركك هناك في تلك الليلة المشؤومة .. ولم
أكن أظن بأني سألقاك قبل قليل على هذه الحالة ..
-فقد غارت النجوم وشحب لمعانها .. وأنت مازلت ممددا بعد تلك الحقنة التي
أخذتها ..
-ابتسامة بلهاء سعيدة كانت ترتسـم
على وجهك ..
-لكزتك في صدرك .. دفعتك ..شددت ذراعيك .. سحبت رجليك ..لكن دونما فائدة
..فقد أبـيت أن تفتح جفنيك من نومك اللذيذ .. وأبيت أن تفارقك الابتسامة البلهاء
المرتسمة على وجهك .
-وعندما بدا آخر نجم في السماء يشحب .. هززتك كثيرا لكنك لم تصح .. نبضك
كان ضعيفا ..ضعيفا جدا ولكن ابتسامتك كانت واسعة وسعيدة وبلهاء .
-لم أستطع غير تركك بعد أن جمعت الحقن والأدوات .. وأخذت الدرج خطفا .. قبل
أن يصحو أهل المبنى . لم يخطر على بالي أن تكون نائما هناك إلى الآن ..
فجأة صمت وارتفعت ضحكة
هستيرية
-
أوه إني كاذب
.. لا تصدقني ..
-فأنا كنت متأكدا أنك موجود هناك على سطح المبنى ذاك .. لكني استمررت في
البحث عنك بإصرار بين الوجوه لأحطم القلق
الذي ينهش داخلي .. وعندما تجرأت واقتربت .. توقعت أن أراك بابتسامتك التي تركتك
عليها
ضحكة هستيرية أخرى ارتفعت ..
-
لا .. إني كاذب هذه المرة أيضا
صرخ بحدة وضرب الأرض الباردة بقبضته المرتجفة
- لا.. لست كاذبا .. فالبشاعة التي رأيتك فيها لم أتخيلها إطلاقا .. فأين
ابتسامتك السعـيدة تـلك مــن القيح المنبعث من فيك المفتوح .. وأين عيناك من تلك
الحيوانات البيضاء التي صارت ترتع فيهما وتخرج منهما إلى فتحات أنفك المسدودة بقيح
آخر تجمع فيها .. وأذناك.. وبطنك المنفوخة كـالبالـون .
- جيفة .. صرت جيفة نتنة .. رائحة
حادة تلفك مع سحاب الذباب الذي أثاره ضوء بطاريتي عليك .. جيفة كريهة صرت ، وأنا
أغطس وأعوم فيك كدودة من تلك الديدان التي ترعى أذنيك المليئتين بالصديد ..
-
أنظر إلي ..أنظر إنني أرعى في صديدك المترامي
حولي .
شملته نوبة هستيرية ثالثة .. علا
صوته الحاد الجاف .. فجأة رفع رأسه عن الأرض بإرهاق باحثا عن شيء ما .. في جيوبه
.. أدخل أصابعه المرتجفة الباردة .. استخرجها بصعوبة بعد أن مزق نصف الجيب ..
تأملها بجمرتين ازدادتا التهابا وحرقتا ما بقي من السائل المالح الذي كان ينبعث
منهما ..فحدقتاه تحترقان ، ورأسه ينفجر ويتحطم شظايا .. هرشه يزداد بأظافره الحادة.. تأملها .. تأملها ..
- أنت الحقيقة الوحيدة في حياتي .. ستريحينني من تلك الرائحة الكريهة ..
ستريحينني من تلك الجثة العفنة التي أرتع عليها .. ستعيدين إلي ابتسامته التي
طالما أحببتها .. وستثيرين ذاكرتي برائحة عطره اللطيف ..
-هيا تعالي .. تعالي..
فتح غطاء الحقنة.. كانت مليئة بسائل شفاف كثير ..
قربها من ذراعه المكشوفة .. المليئة بجروح وآثار الحقن .. ثم توقف بغتة
وأخذ ينظر بعينين مذعورتين إلى الباب الموصد بإحكام..
أبعد الحقنة عن ذراعه .. استند على الجدار .. تحامل على نفسه .. وقف بإرهاق
.. إقترب من الباب ببطء .. ضغط بأصابع مضطربة على الأكرة .. إنفتح الباب .. فتحه
أكثر قليلا .. ثم تراجعت ذراعه مضطربة متهالكة.
عاد خطوات متعثرة إلى الوراء ..
مستندا على الجدار .. رفع ذراعه المكشوفة .. قرب منها الحقنة .. دفع رأسه باضطراب
ويأس إلى الوراء .. شد نفسا من بحر الرائحة النتنة المحيطة به.. شد عينيه على الجثة المنتفخة كالبالون ..
الملقاة على سطح المبنى هناك .. اضطربت شفتاه ..
- اعذرني لفتحي الباب .. فالآن سننطلق من مستنقع الجثة العفنة التي تملأ
فضاء الغرفة .
غرس رأس الحقنة بقسوة ..
-
تعالي يا رائحة عطره الشذية .. تعالي يا ابتسامته
البلهاء التي أحببتها كثيرا ..
و ..وتراجعت يده بالحقنة فارغة .
لم يشم رائحة عطره الجميلة .. لم ير ابتسامته التي أحبها كثيرا .. فقد رأى
الجثة المنتفخة تقترب منه ..أحاطت به.. لاصقت وجهه .. دخلت من عينيه المغمضتين ..
من أنفه .. من أذنيه .. انبثق منه القيح بقوة
.. زحفت الديدان النهشة من بؤبؤي عينيه ساخرة .. زحفت إلى وجنتيه الناتئتين
وفمه المغطى بالصديد .. وانتفخت بطنه .. أصبحت كالبالونة .. ثم .. ثم انفجرت
بالدماء والقيح .
ومن
الخارج سمع بوضوح صوت ارتطام جسد بقاع أرض باردة وصلبة .
0 تعليقات