حكاوى صباحية

سمية الفتاة السمراء من مكة ، ذات الثمانية عشر ربيعا ، الطالبة في الثالث ثانوي ، أتت الحملة لتدفع عربة احدى الحاجات الكبيرات في العمر،ولتحصل على بعض الريالات تعينها على توفير متطلبات المعيشة والدراسة . كانت سمية متواجدة معنا في كل المناسك والمشاعر ، تدفع عربة تلك المرأة العجوز ، تؤدي عملها بتفان واخلاص كبيرين . كنت أراها منكمشة على نفسها ، تقف في ركن قصي مع العاملات الفلبينيات والاندونسيات . تراقب المشهد أمامها بصمت ، وترى البذخ في الطعام والشراب الذي أصبحنا نعيشه ونطالب به في الحج . ترى عالمين منفصلين ؛ عالم الغنى والاقتدار والشعور بالقوة وغرورها ، وعام الفقر والضعف والانسحاق الانساني والبشري الذي هي جزء أصيل منه .

كانت عيناها المترددتان الخجولتان المطرقتان الى البعيد دوما  تعكسان الفقر والشعور بالانسحاق النفسي الشديد والضعف الانساني في أشد حالاته .

كنت كلما أمر أمامها أشعر بوخز الضمير  ، سمية أتت لتخدم ، ولاتستطيع أداء الحج رغم انها ابنة مكة ومنى بسبب هذه المهمة التي ستكسب منها بعض الريالات الضرورية جدا لحياتها.  سمية بثوبها العادي وعباءتها السوداء تؤدي مع العجوز- التي تجللت ببياض ثياب الاحرام -كل المناسك وتمر على كل المشاعر . كنت أشعر أن الله تعالى كتب لسمية الحج وتقبله منها بأحسن القبول قبل أن يتقبل حجي وحج من معي في الحملة  ؛ ليست سمية فقط وانما أيضا حج الفلبينية التي تقدم لنا الطعام والشراب ، وحج الاندونيسية التي تنظف المكان وتغسل ملابسنا، وتتمنيان أن تذهبا معنا الى الطواف والرجم.

سمية حكايتها لاتنتهي ،لقد ولدت في مكة المكرمة وكذلك ابويها واجدادها ، ويسافرون بالهوية وليس بالجواز السعودي، فلا يحق لهم الحصول على الجواز السعودي .  صحيح اجدادها الأوائل نزحوا الى مكة من افريقيا ؛ الا انها لاتعرف غير مكة وشعابها ، مسقط رأسها ومرتع طفولتها وصباها . سمية تتكلم اللهجة الحجازية الدافئة ، سألتها عن خطة تحويل مكة الى منطقة فندقية  ، والغاء كل الحارات والبيوت فيها بالتدريج . فقد تم دفع مبلغ لوالدها ليترك منزله الى مكان آخر غير شعاب مكة ، ولديه مهلة ستة أشهر لمغادرة المنزل . المبلغ غير كاف لتدبير منزل جديد في مكان آخر بعيد جدا جدا عن مكة ؛ حبيبة وتوأم الروح . لكن لابد من ذلك قبل ان تقطع عنهم الكهرباء والمياه .

سمية الروح الشابة الشفافة والجميلة ، الانسانة المنسحقة نفسيا وبشريا بسبب لونها وفقرها الشديد ، وفقدان بيتها الدافئ بجوار الكعبة المشرفة في أحضان مكة والذي لم تعرف غيره. ترى هل ستستطيع اكمال دراستها بظروفها الصعبة والمعقدة هذه ؟ والخروج من قاع المجتمع الى سطحه ؟ ام أن القاع سيضطرها الى تقديم الكثير من التنازلات وسيبتلعها ؟ لقد شاهدنا هذه التنازلات في الطريق من مكة الى منى؛ أطفال بعمر الورود مبتوره أطرافهم بعناية يفترشون الارض ويتكففون الناس ، وفتيات ونساء يحملن أطفالا رضعا ويسعين بثياب رثة وراءك بذل شديد لتضع دراهم في أكفهن الممدودة بلا كلل أو ملل .
الجريدة  حجبت هذا المقال عن النشر ؟؟!

tahiraallawati@gmail.com