بث الاشعاع الروحي للإنسان
الدكتورة
/ طاهرة بنت عبدالخالق اللواتية
نشر بمجلة الثقافية / مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم
لاتستكمل تربية الفرد إلا عن طريق الفن ، فالفنون تلك المنظومة الواسعة من
المناشط المتصلة بالوجدان والنفس ، والتي تطلق موهبة الانسان ورغبته في الابداع . فالفنون اصطلاحا هي : نتاج
الإبداع الإنساني والخروج عن المألوف في التفكير وفي النظر أو الحكم على أي شيء ،
فمن خلال الفنون يعبر الإنسان عن أناه وذاته، أوعن رأيه وإحساسه . وهي تشمل التمثيل، الرسم ، النحت ، والموسيقى ، التمثيل
والغناء .....الخ.
وتتعدد النظريات العلمية في تفسير وظيفة الفنون ، فعلماء النفس يقولون أنها
القوى المهذبة لغرائز الإنسان والمتسامية بها الى المستويات الرفيعة ، فالفن يهذب
النفس الانسانية ،ويتسامى بطاقاتها الغضبية والشهوية ، فتنطلق على هيئة فنون راقية
. أما علماء الدين فيرون أن الفن هو الاشعاع الروحي في الانسان ، فهي لغة الروح مع
كل تجلياتها السامية . وتعرّف الموسوعة البريطانية الفن على أنه :استخدام التصور
والمهارة لإيجاد نتاجات جمالية أو صياغة تجارب شعورية أو تهيئة مناخات تتميّز بحس
جمالي. ويقوم البعض بتوسعة دائرة الفنون ، فتشمل الآداب أيضا كالشعر والنثر وفن
الخطابة . لذا نرى أن الفن أوالفنون والآداب تشكل عالما جميلا ومهما جدا يتماهى
معه الانسان ، ولايمكن أن يعيش انسان حياته دون أن يتصل بشكل من الأشكال بالفنون
والآداب. وقد ورد في موروثنا الاسلامي قول الامام علي بن أبي طالب: "روحوا القلوب واطلبوا لها
طرائف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان "، وقال أيضاً: " إن هذه القلوب تمل كما تمل الابدان ، فابتغوا
لها طرائف الحكمة.
"
والفن يحقق نموا في الذوق والإحساس بالجمال الى جانب اكتساب المهارات
الفنية ، ويعالج الفن في المدارس على أساس انه مادة ممتعة وله دور كبير في تربية
الفرد ، فالدارس للفن يتغير سلوكه وتتغير
عاداته ، ويكون قادرا على إدراك المعاني والقيم الجمالية في الأشياء . ويجد الانسان
فيه متنفسا لأحاسيسه وانفعالاته ، وتعبيرا لرغباته وطموحاته الخيالية ، ومعبرا
لأفكاره وتكوين شخصيته المستقبلية .
يقول مصدق الحبيب يمكن لنا استقراء ما يميز الفن كنشاط إنساني وحقل اجتماعي
من خلال مقارنته بالعلم ؛ فالعلم يهتم
باكتشاف الحقيقة الموضوعية المجردة للطبيعة والإنسان، لكن يعنى الفن بإلقاء الضوء
على الحقائق الذاتية المتعددة والمتباينة عبر وجهات نظر هي الأخرى مختلفة باختلاف
عواطف الفنانين والتجارب التي يخوضونها والبيئات التي ينشأوون فيها والثقافة التي
يترعرعون في كنفها. ويختص العلم بتنشئة للتفكير العقلاني وترسيخ للتحليل المنطقي، لكن
الفن يتجه إلى تنبيه وتنمية المراكز الحسية وتحفيز وتطوير قدرات التصور والحدس. وخلافًا
للعلم ذي الاتجاه المحدد والوسائل التحليلية المباشرة الثابتة، يتمتع الفن باتساع
رقعة أنماطه ووسائله وتعدد وتباين سبل تطبيقها مما يؤدي إلى لا مركزية الفعل وعدم
مباشرة تأثيره ويؤول بالتالي إلى تعدد وتباين تفسيراته وتأويلاته ولامحدودية
نطاقها. وخلافًا للعلم الذي لاتسمح تفسيرات ظواهره بمساهمة أي كان ؛ إنما يشترط
فيمن يضطلع في تفسير الظواهر العلمية أن يكون عالمًا متخصصًا متدربًا في مجال بحثه
وله خبرات محددة في مجال تخصصه، فإن التفاعل مع الأعمال الفنية وتفسيراتها مفتوح
لجميع الناس، ولا يشترط مثل ذلك التفاعل والتفسير أية خبرة أو تدريب، ذلك أن
الفنون تخاطب مشاعر الناس بغض النظر عن رصيد معارفهم واتساع نطاق ثقافاتهم، وليس
من شأنها أن تتابع خيارات الناس وتتقصى صياغات مشاعرهم.
وعليه صارت تربية الطفل عن طريق الفن عملية أساسية ومهمة للغاية ، فاهتمت
الدول بتدريس الفنون والآداب في مدارسها واعداد معلميها في جامعاتها ، وفي نظري
فان تدريس الفنون لم ينقطع عن التعليم منذ وعى الانسان أهمية الفنون والآداب ، ففي
تاريخنا الاسلامي كانت المعلمون يهتمون بتدريس الطفل العلوم الدينية أوالدنيوية
الى جانب تدريس الآداب كالشعر والنثر والخطابة وطرائف الحكمة ، ولربما ظهرت الفنون
التشكيلية متأخرة قليلا فقامت المدارس الحديثة بتدريسها الى جانب الآداب . ومع
التطور الحاصل الآن في وسائل التكنولوجيا ، فان استخدام الحاسوب في تعليم الفنون
والآداب أصبحت متاحة تحت اشراف المعلم في المدارس ، أوعن طريق التعلم الذاتي لمن
يرغب .
وقد قطعت التربية عن طريق الفن شوطا كبيرا في المدارس ، فلم تعد كما كانت لدى بداية
ظهورها ، وظهر تنظير علمي واسع وكبير حول أفضل الوسائل والطرق لتدريس الفنون في
المدارس ، وبدأ هذا العمل مع معلمي الفنون في الجامعات في أثناء تعلمهم وتدريبهم
كمعلمي فنون في المدارس الأساسية والثانوية . ولذا فإن مسار التعامل مع الفنون في
المدارس يجب أن يكون بالجدية والقوة التي تتمتع بها مسارات المواد الدراسية الأخرى
. فكلنا يتذكر كم كنا ننتظر حصة الرسم أو المناشط أو الفنون اليدوية بغاية الشوق
والترقب كي نخفف عن أنفسنا عناء الحصص الدراسية الأخرى . وكلنا يتذكر كيف كانت هذه
الحصص تمر سريعا بدون أن نشعر بالوقت ، ثم نعود أكثر نشاطا وراحة لتلقي بقية الحصص
الدراسية . وكم كان يسوؤنا أن تلغى هذه الحصص لصالح حصص أخرى لأي ظرف كان . فالفن
وسيلة تربوية شأنه شأن وسائل التعبير الاخرى كاللغة والكتابة من حيث ان له عناصر
تعبيرية ، ومن أدوات الفكر والادراك والعمل الجسمي ، والفن وجد في التعليم كجزء من
العملية التربوية المتعلقة بالتطور الانساني وكشيئ متمايز عن الانشطة الاخرى ،
والى جانب وظيفته التربوية له وظائف سيكولوجية وفسيولوجية وروحية كما أسلفت . لذا ينبغي ان تمارس التربية الفنية في المدارس
وفق آخر ما توصلت إليه الأبحاث التربوية والنفسية التي تهتم بتعليم الفن . ولا
تبنى الشخصية المتكاملة للفرد الا اذا ضمنا تعليم كل مواد المعرفة والفهم ، وجعلنا
الفن في علاقة سوية ومنسجمة معها. ويجمع العلماء أن التربية عن طريق الفن وسيلة
تؤدي الى اكتساب قيم الخير والجمال ، والاخلاق والعدالة والحرية المسؤولة لدى
الطفل والمتعلم ، ونمو التذوق والخيال والادراك والفهم والثقافة ، وبناء المعايير
الصحيحة لتقييم الأمور والحياة كلها ، الى جانب الخصوصية في الابداع ، والابتكار
والتجديد والتطوير . وهذه القيم كلها تؤدي الى مجتمع انساني خير ودينامي ومتقدم ،
فقد ترك العلم نظرية الفن لأجل الفن- وان كانت نظرية الفن للفن تعنى باكتساب
الانسان قدرا من قيم الجمال. فأصبح الفن
يساهم مع بقية المواد الاخرى في اعداد الفرد للحياة واحتلال مكانته المرموقة في
المجتمع ، لا من الناحية الفنية فحسب بل وايضا من الناحيتين الروحية والعقلية
وتحقيق التكامل في شخصيته في جميع جوانبها ، فالفن عند العلماء المسلمين القدامى عملية
تزاوجيه بين العقل والفكر والنفس الإنسانية من خلال مستوى ادراكها واحساسها
الجمالي، وهذا المستوى أساسه البناء العقلي والفكري .
لقد تعددت المدارس
والاتجاهات حول كيفية إثراء الطفل بالتربية عن طريق الفن ، وكذلك تعدد النظريات
التي تهتم بتدريب معلمي الفنون قبل التخرج والعمل في المدارس ، ومن أهم ماظهر
حديثا مايعرف بنظرية التربية الفنية المعتمدة على المجالات المعرفية أو (DBAE) كمدخل شامل لاعداد معلمي الفنون أو التربية الفنية. وهي تهتم
باكسابه مجالات معرفية عديدة وعلى الأخص مجالات الانتاج الفني والنقد الفني وتاريخ
الفن وعلم الجمال. وهذه الشمولية تجعل المعلم قادرا على العطاء بطريقة أفضل وأشمل
، وتعطي مادة التربية الفنية القدرة أن تكون مادة أكاديمية وذات منهج متماسك وقوي
مثل بقية المواد الدراسية ، وهذا المنهج يعطي الطالب القدرة على التحدث والكتابة
والقراءة والنقد عن الفن وحول الفن الى جانب ممارسة الفن نفسه في حصص الفنون.
0 تعليقات