المهراجا يغزو الجزيرة
القصة الأولى
المهندس منوج
نظر في المرآة وتحسس وجهه الأملس.. رخامة سمراء طرية. ابتسم في سره ..فهو يجيد الحلق مهما كانت الشيفرة قديمة. ابتعد عن المرآة مبتسما .. ينتظره يوم آخر حافل .
خرج الى الشارع الفسيح ..ملأ خياشيمه من الهواء النقي.. امنيته ان يبقى هنا طوال عمره فلا يرجع الا رمادا في زجاجة بعد عمر طويل حافل هنا .. دخل موقف العربات اسفل المبنى الذي يسكن فيه ..لا يحب ان يذهب الى الموقف بالمصعد الداخلي حتى لايحرم نفسه الاستمتاع باستنشاق النسمات النقية الطازجة..ماتزال الساعة السادسة والنصف صباحا .. وماتزال اشعة الشمس تتغزل بلطف ولم تلتهب سياطها بعد .. مع ذلك هو يحب سياطها ..يعشقها.
وصل المكتب بعربته الفاخرة النظيفة.. فهو المهندس المشرف على المشروع الكبير.. مجموعة طرق ستكون نبض هذه المدينة الخليجية البحرية .. كم هي ساحرة هذه المدنية.. تستحم في البحر نهارا ..تنام على كتف الجبل ليلا بينما تمد قدميها الجميلتين في دلال في عمق التاريخ والمستقبل.
مئات الملايين تتحرك أمام عينيه فوق الورق وتحت يديه ..هل كان يتخيل ان يكون مسؤولا عنها.. انكب على الورق مراجعا الارقام بلذة متناهية .. دخلت المنسقة وفي يدها بعض الورق . حيته بأدب جم .. ووضعت الورق امامه ثم خرجت مسرعة.. مع اقفالها الباب رفع رأسه نحو الباب.. "يالغرورها من تظن نفسها هذه الغبية. "
كان منوج يتحرك كفراشة خفيفة وهبت الحياة منذ ان وطأت قدمه هذه المدينة الساحرة .. كانت حلم رحلة الألف ميل .. وهي اليوم حقيقة ومايزال شعره أسودا فاحما الا من شعرات بيضاء قليلة سخيفة في فوديه.
مع الثامنة بدأت الاتصالات الكثيفة اليه ومنه .. غرق في سيمفونية عشقه.. اخذته عميقا..اتصل به رئيس الشركة عشرات المرات .. طلبه في مكتبه عدة مرات .. هكذا يمضي نهاره بين اتصال وطلب من الرئيس . وفي كل مرة يقول شيئا يجعله اكثر ثقة به واعتمادا عليه .. لايذكر كم من الوقت يمضيه ليلا وهو يرتب افكاره على الورق كي يكون جاهزا لليوم الثاني ..لكن النتائج دائما مرضية مع هذا الرئيس.. الذي سيصل حتما وقريبا جدا الى الثقة العمياء فيه.
هل تكفي الثقة العمياء ..وان يؤدي عمله كأحسن مايكون ؟. هذا مايؤرقه بعض الليالي فلا يستطيع ان ينام حتى يذهب الى صديقه رام . حديث رام يهدئه .. يعطيه جرعات الأمان .. وجرعات اخرى .. يقول له الجرعات الأخرى يجب ان يستظهرها ويحفظها صما ويعمل بها .
هل لديه الجرأة وكيف ؟ متى سيفتح الباب ؟ متى ستكون لديه الجرأة كي يخطو هذه الخطوة ؟ رام يقول له لاتضيع الكثير من الوقت ..الكفاءة وحدها بطة مشلولة في هذه المدينة التي فيها الكثير من الطموحين الأكفاء ..أجل بنظرك وسترى كم من البط المشلول في هذه المدينة من صنف منسقتك الجميلة..ابنة هذه البلد.. ومن اصناف أخرى من البشر.. لاتكن رقما آخر عبثيا ..هل تعتقد انك وصلت الى هذه المدينة بالكفاءة..غص بريقه ..خفض رأسه ..لايريد ان يتذكر ..يبتسم رام باسنان بيضاء ناصعة.. هيا ارفع رأسك.. دخلت الجنة ولايمكن ان يخرجك منها اي أحد.. حتى راما الاله لن يستطيع اخراجك منها ..فضحك وقال بغرور :حتى إله منسقتي المتعجرفة لن يستطيع اخراجي من جنتي هذه!!
كان على موعد مع رئيسه مساء في منزله الفخم على تلة في منطقة راقية ..مراجعة بعض الاوراق المهمة التي لاتقبل التأجيل ..كان في حقيبته زجاجة ملفوفة بعناية ..متاكد انه اصبح يعرف ذوق رئيسه تماما.. تمت مراجعة الاوراق بسرعة.. فقد اخذ السائل المعتق بلب صاحبه ..ارتفع صوته ضاحكا :منوج مفاجآتك كثيرة .قهقه عاليا : سيدي اعذرني ..زجاجة صغيرة لاتفي بحق الجلسة ..لكني وعدت بأفضل منها واكبر وأعتق..وستصل قريبا.
لم يتفاجأ منوج عندما صدر قرار تكليف اقرب الناس الى قلبه في الشركة بان يباشر عمل رئيسه الذي خرج في اجازة.. يستحق الاجازة والاستمتاع والالتذاذ بالحياة هذا الرجل .. كفاه عذابا مع زوجته ابنة عمه التعيسة.
اصبح يرى رام كثيرا .. ويراجع معه التفاصيل خوفا من ضياعها من دماغه.. فقد منعه رام من كتابة وصفاته وجرعاته.
لايدري منوج متى بدأت بالضبط اللقاءات الليلية مع هذه الشلة الفخمة وعلى رأسها رئيسه.. يسهر على راحتهم ..ويوفر لهم كل مايسعدهم .. ولايدري متى قرروا ان يقضوا كل نهاية أسبوع في مومباي ..رام ساعده كثيرا كي ترتاد شاليهم الفاخر المتنائي على شاطئ مومباي جميلات بوليوود.. كل نهاية اسبوع وردة من أفخر وردات بوليوود..
لكن هذه المتعجرفة الملفوفة في عباءتها وكأنها عمياء وصماء لاترى شيئا من سطوته وقوته..وماتزال متعجرفة بقسوة تحفر في قلبه جروحا تتقيح ..فتطلق في نفسه آلاما وحشية.. تذكره بحاله وهو يجوس شوارع بومباي ليل نهار بحثا عن عمل.
بينما هي تراجع معه بعض الارقام في المشروع تعمد ان يطلق امامها ورقا وارقاما اذهلتها ..رفعت رأسها بينما عينيها الجميلتين قد اتسعتا عن آخرهما ..بادرها بتحد : هل لديك اعتراض ..قولي هل لديك اعتراض ..رأت توقيع المسؤول المالي بقلمه العريض بجانب توقيع الرئيس..كم مليون ..دارت الارقام بها ..فهمت لماذا كل الاوامر التغييرية التي نشطت مؤخرا في المشروع ..ماتزال نظرته متحدية ..خفضت رأسها .."من قال ان الاوامر التغييرية كعكعة ساخنة لذيذة. ..من ..من .."عصرت ذهنها.. نعم تذكرت ..في احد الاجتماعات التي دخلت فيها مكتب الرئيس لتعطي منوج بعض الورق العاجل .. كان الرئيس يردد الجملة بقهقة متواصلة.
انسحبت من امامه بهدوء بينما عينا منوج تترصدانها بتحد كبير لم يعد يخفيه.
نظرت لنفسها في المرآة ..ماذا تملكين ياوضحى من الحياة ..ملامح رقيقة وعينان جميلتان ..وشهادة عالية ..ورغبة وعنادا للنحت في الصخر كما نحتت أمها حتى ربتها وأختها بعد غياب الأب من حياتهن ..غياب طال ولم تعد تتذكر ملامحه الا عندما ترى دموع أمها خلسة.. امها تقول انها اقرب شبها الى الغائب العزيز.
هل تغادر العمل .. هل تترك عملها ..شعرت به من اول يوم ..كانت ترى نظراته تتلكأ على صفحات وجهها ..غاضها الأمر ..هو يعرف انهما لايمكن ان يلتقيا ..خطان لايمكن ان يلتقيا ابدا ولن يلتقيا..رغم كل هيلمانه لايريد تركها..ماذا يريد ..هل تترك عملها ؟ قررت الاستمرار والتجاهل ..لكن تشعر مع الأيام ان نظراته الملتهمة لملامحها تحولت الى شئ مخيف ..تشعر بالخوف والذعر والانكماش ..هل تستطيع ان تقرأ ملامحه وحركاته ؟ هل قراءتها دقيقة؟ ارتعدت .. حاولت تجاهل الأمر والنسيان ..لم يعد يتكلم كثيرا واصبح اكثر عنفا ..لماذا أراها الارقام ..مارسالته ؟؟ المطارق تدق رأسها بقسوة..غدا ستقدم استقالتها وستتحمل تأنيب امها والاهل قليلا أو كثيرا.
خرجت من عنده وهي تتنفس الصعداء .
لقد كلمته بأدب جم بانها تريد ترك الشركة لبعض الظروف ..قدمت ورقة الاستقالة .. اخذ الورقة واطلق صوبها نظرة نارية ..غمغم بكلمات ..اكدت له الطلب مرة أخرى بأدب كبير.. تشعر بالراحة والبعد عن دائرة الخطر ..اخذت تلمم اغراضها وهي تفكر بما ستبرر لأمها ..لحظة ورن جرس الهاتف.. انه الرئيس.."حسنا استقالتك ستأخذ طريقها لكن قانونا يجب ان تستمري معنا ثلاثة أشهر الى ان يتم توفير البديل المناسب.. وحتى لاتحرمي من حقوقك المتوجبة." أسقط في يدها..انها تحترم أنظمة العمل.. وتريد الحصول على شهادة الخبرة التي ستفيدها في العمل الجديد الذي ستبدأ بالبحث عنه من غد.
رن جرس الهاتف ..رفعت رأسها الى الساعة ..كانت السادسة مساء.. يجب ان تغادر..لكنه منوج يطلبها.
طلب منها ان تجلس ..جلست بينما التقطت عيناها صورة وضعت في اطار جميل ..صورته مع امرأة وطفل صغير ..أول مرة تراها على المكتب..لايهمها الأمر ..رفعت رأسها اليه .."نعم أستاذ منوج ." تحرك بكرسيه الدوار نحوها..اقترب منها وفي يده ورق ..مد يده اليها بالورق ..طلب منها المراجعة ..انهمكت في المراجعة ..فجاة رفعت رأسها .. ظله يحتويها ..آه..لا..لا..أرجوك ..ارجووووك.. منديل متكوم في قبضته.. يمسك رأسها بقوة شرسة ..يقرب المنديل ..دارت الدنيا بها..لم تعد تشعر بشئ.....
باغتها الضوء ..رفعت رأسها بعينين غائمتين..وجع في كل جسمها ..حارس أمن المبني امامها وسط الضباب ..يحمل كوب ماء ..ناولها الكوب ..اشربي استاذة وضحى ..اخبرني أستاذ منوج قبل قليل انك نمت من ارهاق العمل.. وقال لي ان ألا ازعجك حتى تفيقي..وقد غادر منذ ساعة لإتصال الرئيس به ..تحاملت على نفسها الى الحمام .. ألم يمزقها..بقع دماء تملأ ملابسها الداخلية....
تحبس دمعها بقوة وتلملم أغراضها من فوق المكتب لاحظت ورقة بتوقيعه .."تستطيعين ان لاتداومي الثلاثة أشهر ..فقد وافق الرئيس مشكورا على ذلك ..وستصل اليك شهادة الخبرة في البريد ".وهي تغادر المكتب كانت الساعة تدق التاسعة مساء ..الحارس يودعها بود كبير.. وصلت بعربتها الى المنزل والألم يمزقها ..أوقفت العربة وغرقت في نشيج حاد في العتمة ..ازداد نشيجها وبكاؤها ..يكاد صدرها ينفجر بالحشرجات المتسارعة ..لماذا دفعت الثمن؟ وثمن من تدفع ؟ زاد نشيجها ..ماذا ستقول لأمها ؟ هل ستقتلها ؟؟ هل ستقضي على أمنياتها الجميلة في الحياة ؟ هل ستتحمل الفضائح؟ هل ..هل..هل ؟ رن الجوال بإلحاح ..لايتوقف ..انها امها.. استبد بها القلق ..العاشرة والنصف الآن.. منذ كم من الوقت وهي تبكي ؟؟ اول مرة تتأخر الى هذا الوقت ..مسحت بسرعة دموعها الغزيرة التي لاتتوقف ..وضعت على عينيها الحمراوتين نظارتها الشمسية ..تحاملت على نفسها رغم الألم الذي يمزقها ..دخلت الدار والجوال مايزال يرن بإلحاح.
0 تعليقات