جريدة الرؤية
عندما تقرر سفرنا إلى إيران ضمن وفد ثقافي سياحي، كُنا متيقنين أننا سنرى دولة أنهكتها العقوبات الاقتصادية التي تزداد وتيرتها قوَّة وشدة، بحيث لم يبق ما تُعاقب به بأكثر من ذلك.. فكلُّ وسائل الرَّاحة التي تعودنا عليها في سفرنا إلى دول العالم لن نلقاها في طهران وأصفهان...وغيرهما من المدن التي سنزورها، وسنعاني معاناة شديدة.
كان أمرا مزعجا ومحيِّرا جدًّا، جعلنا نحشر أغراضًا وأشياءً في الحقائب؛ تلافياً لمزعجات الحصار وفصوله المرعبة التي قد نعيشها هناك.
وفي الطائرة، قالت زميلتي: برنامجنا يتضمَّن الطيران الداخلي بين المدن، وأسمع أنَّ النقلَ الداخلي طائراته من ورق بسبب الحصار! عقَّبتُ على حديثها بغمغمة، ثم حاولنا الانشغال بتجاذب الأحاديث كيلا تحاصرنا الأفكار السوداء.
ومن المؤكد سنرى الشوارع المتكسِّرة، والعربات المتهالكة، والتلوث والعادم الذي ترتفع طبقاته في الجو، وسنفتقد مطاعم الوجبات السريعة، وسنشهد الفقر والمتسولين في الطرق والشوارع، وسنشهد تذمرا وحياة اجتماعية غير مطاقة.
قالت إحدى زميلاتي ونحن نخرج من مطار الإمام الخميني: أخاف جدًّا من تلوث مدينة طهران بالعوادم. وقد أخذت احتياطاتي، وأحضرت معي جميع اللوازم؛ فالعودام والتلوث يسببان لي مشاكل صحية.
وكان السكن في شمال طهران. والمطار في جنوب المدينة المترامية، إذن أمامنا حوالي خمس وأربعون دقيقة في "الفان" الذي سيخترق المدينة إلى السكن.
وعندما بدأ "الفان" بالتحرك، لاحظت حركة السير السريعة والمنظمة، والعربات حديثة الصنع، ماركات لم أرها في منطقتنا العربية. سألت عنها المُرافِق. قال إنَّها صناعة إيرانية، وأكمل: سعرها معقول وتقنيتها راقية، وعليها إقبال كبير جدًّا من بعض الدول الصديقة.
لاحظتُ طريقا موازيا للطريق السريع الذي نسير عليه، لم أحتج إلى كثير من التدقيق لأكتشف أنه طريق الشاحنات والتريلات حتى لا تزاحم حركة السير العادية وتثقلها. عندما دخلنا في العمران الكثيف لاحظت الأرصفة وكأنها لوِّنت بالأمس، والشوارع الفسيحة والجسور العلوية المتشعبة، والنظافة التي تضاهي نظافة مدننا، ألقيت نظرة على زميلتي، رأيتها منشغلة بحديث مريح، فلا وجود للعوادم، والخضرة تزين الطرق وتمتد عشرات الكيلومترات، وأشجار معمرة خضراء ضخمة لا يبدو عليها أثر التلوث الأسود والهباب.
وصلنا السكن، دخلنا الغرف، فتحتُ حقيبتي سريعا لأستخرج الصابون وبعض مستلزمات الاستحمام؛ فقد شعرت بأن أصابعي متصبِّغة، ويجب أن أغسلها، لابد أن ذلك من التلوث؟ دفعني فضولي لاستخدام الغسولات والصابون المتوفر في الحمام. شعرتها منعشة وجميلة وذات رائحة لطيفة، واستمررت بغسل أصابعي بضيق شديد، فقد اكتشفت أن تلوث أصابعي بسبب حملي حقيبة يد جلدية سوداء.
بينما كنتُ أرتب حاجياتي شعرتُ بقرص الجوع، لم أتجرَّأ على مد يدي إلى علبة البسكويت التي وُضعت على الطاولة مع صحن فاكهة الموسم، واكتفيت بحبتي مشمش، بينما نظرت إلى علبة البسكويت شزرا، لا أعتقد أن البسكويت سيكون لذيذا؟
أثناء الجولات السياحية، اكتشفنا أنَّ كلَّ شيء متوفر في المدن الإيرانية؛ سواء المستورد أو من صنع إيراني؛ فالصناعة الإيرانية دخلت كلَّ مجال وجانب. لم نشهد ماكدونالدز وبرجر كينج، لكن شاهدنا مطاعم وجبات سريعة لا تقل رقيًّا، ومطاعم من كل الأصناف والأنواع حديثة وتراثية، وتناولنا فيها السمك المزروع بشهية كبيرة.
تفاجأنا برفاهية المواطن ونحن نرتاد أسواق اللباس وسوق الذهب والمجوهرات في طهران، ألوان وأنواع من الحلي المبهرة، السوق مليء بحركة ونشاط دائبين، وحركة نسائية نشطة لشراء الحلي والمجوهرات والألبسة. وقتها وقفت أمام إحدى الفاترينات وقد شدَّتني بعض موديلات الحلي الحديثة التي لم أرها قبلا. لم أرَ فقيرا يتكفَّف عند إشارات المرور كما الحال في الكثير من مُدن العالم، أو يفترشون الأرض مقدِّمين بعض البراعات والمهارات كما في مدن أوروبا، فنضع في أطباقهم بعضا من المال.
ظننا أنَّ الشعب والبلد عطاشى للدولار يتلقونه بتلهف أمام عملتهم التي تزداد رخصا بسبب الحصار وبسبب عمليات ضرب عملتهم. لكنَّ البائعين يفضلون البيع بعملتهم الإيرانية، لم يشكل الدولار أي إغراء لهم. ولا وجود لسوق سوداء، والبنك نصحنا أن نغيِّر العملة عند الصرَّافين العاديين لأن سعرهم أفضل من سعر البنك!
لاحظت أنَّ الكثيرَ من شبان طهران وأصفهان والمدن الكبرى قد وضع شريطا طبيا لاصقا على أنفه، وعندما استفسرت عن ذلك؛ ذكروا توجُّه الشباب الكبير لإجراء عمليات تجميل الأنف ناهيك عن الشابات. واكتشفت من خلال صحفهم كثرة وزخم إعلانات عمليات التجميل بأنواعها، وبأحدث التقنيات ((رفاهية يعيشها المواطن، ووفرة مالية تجعله يفكر في تجميل أنفه)).
أردت أن أعرف كيف يُؤثر الحصار على الشعب الإيراني بعد ما رأيته من حياة طبيعية وعادية. قال مرافقنا الإيراني: جهودُ الدولة تتركز على ألا يشعر المواطن بآثار الحصار؛ فهناك دعم مالي لكل أسرة، وهناك تشجيع كبير للصناعة الوطنية، وهناك توفير منزل لكل شاب يتزوج بسعر مناسب وعلى أقساط. وهناك تشجيع على زيادة إنجاب الأبناء بالكثير من التسهيلات في العمل للنساء. ومكافآت مالية تبذل لأي طفل يُولد بعد أن تم ملاحظة أنَّ الإيرانيات أصبحن مقلات في الإنجاب بسبب توجههن الكبير للتعليم العالي، أو للاستمتاع بالحياة، أو للإقبال الكبير على العمل خارج المنزل. كما أن العلاج والدواء مدعومان ورخيصان جدًّا. واكتشفت أنَّ المشافي الإيرانية أخذت تجذب العمانيين والخليجيين لرحلة علاج إلى طهران أو شيراز، بدلا عن تايلاند أو ألمانيا، مع رخص العلاج وكفاءته، خاصة أمراض العيون والأمراض النسائية...وغيرها.
لم أجد إقبالا من المواطن على المستورد رغم توافره؛ فالسلع المحلية مرغوبة، ومعظمها عليه علامة الجودة التي تصدر عن منظمة الآيزو. صناعة إيرانية تكتسح السوق الإيراني ذي الثمانين مليونا، وتقدِّم ذائقة شرقية عليها لمحة من عُمق التاريخ. قالت لي زميلتي: هل تذوِّقت البسكويت الذي وُضع في الغرف، إنه لذيذ جدًّا بطعم الهيل اللطيف!
بهرتني اللوحات الفنية التي يبيعها الفنانون الإيرانيون في زوايا مختارة، ونحن في أعلى قمة برج ميلاد الذي يكشف مدينة طهران من علٍ، وبنته أيدٍ إيرانية كمعلم سياحي وفني وهندسي وعلمي، واستغرق بناؤه اثني عشر عاما.
اهتمامٌ كبير بالعلوم والتاريخ، لاحظته في المكتبة الوطنية التي تمتد تحت الأرض في طوابق، وتمتد أفقيا لتحتضن ملايين الكتب والمراجع والمصادر، وعشرات الآلاف من طلاب الدراسات العليا كل عام. وفي غرفة المسكوكات قمتُ بتصوير عشرات الصور للمسكوكات العربية منذ أن بدأت في زمن الخليفة عبدالملك بن مروان، وتوقف دولة الخلافة العربية الإسلامية عن استخدام نقد الدول القوية آنذاك.
زرنا عشرات المراكز الثقافية والفكرية للباحثين والكبار والنساء والأطفال، ومدارس الموهوبين التي تضم مئات الآلاف من أبناء إيران الموهوبين في المدن والأرياف. مكتبات ومطابع تنتج آلاف الكتب سنويا، وحركة ترجمة واسعة من اللغات العالمية إلى الإيرانية والعربية، واهتمام خاص باللغة العربية وأبجديتها العربية التي تكتب بها اللغة الإيرانية.
الدولة تأوي ملايين اللاجئين من الأفغان والعراقيين منذ عشرات السنين، في مدن بُنيت لهم في ضواحي طهران. يعيشون حياة جيدة، فلم يعد أغلب العراقيين والأفغان إلى بلادهم رغم بدء استقرار الأمور فيها.
قضينا وقتا طويلا في زيارة الأماكن السياحية في أصفهان، مدينة التنوع الديني، التي تستهوي الأوروبيين فلا ينقطعون عن زيارتها وعن زيارة شيراز وأرومية ومدن شمال إيران التي فيها عدد كبير جدًّا من المسيحيين. ورغم الحصار، تبدأ المجموعات السياحية الأوروبية بالوفود مع شهر أكتوبر إلى نهاية شهر مايو، ناهيك عن الأوروبيون الذين يحملون أمتعتهم على ظهورهم وينتقلون من مدينة إلى أخرى بشبكات الباصات السريعة أو رحلات الطيران الداخلي أو داخل المدينة بشبكات المترو.
وفي أحد فنادق أصفهان التراثية، كانت جارتي الألمانية في شوق كبير للحديث معي، كانت تلبس ثوبا إيرانيا تراثيا، وتفترش السرير التراثي الوثير أمام غرفتينا في ساحة مفتوحة على فضاء هادئ يحمل نسمات لطيفة، وتجاورنا شجرة توت وتين مثمرتين وفسقية ماء يترقرق منها الماء بخرير يدغدغ الحواس في هدوء الليل. كنت مشغولة عنها بـ"وباء الواتس آب"، فقد كنت أرسل للأهل بعض الصور. تحدَّثت السائحة عن مجموعتها التي سترحل فجرا من أصفهان، فقد بقوا فيها أسبوعا، وذكرت أنها ستقضي الليل في حزم التراثيات التي اشترتها من سوق أصفهان المشهور. هذا السوق الذي أنشئ على يد الشاه عباس منذ ما يقارب الأربعمائة عام، ضمن مدينة أصفهان القديمة التي بناها عندما أراد نقل العاصمة إليها. مدينة مكوَّنة من قصر وسوق وحدائق وجامع ومسجد ومسطحات مائية وخضراء للجلوس والمشي. الشاه عباس الذي غيَّر مذهبه إلى التشيع لأهل البيت فتبعه الشعب الإيراني في تغيير مذهبه حبًّا له. أصفهان التاريخية مدينة تجذب السياح الأوروبيين بفنونها الهندسية الفارسية الشرقية وقبابها وقيشانها المزخرف الرائع، وتراثها الضخم.
سألتُ المسؤولَ الثقافي في الرحلة: ما مشكلة طائراتكم التجارية؟ هزَّ رأسه قائلا إنه الحصار الذي يمنع أن تُباع لنا قطع غيار الطائرات التجارية، فيلقى أصحاب شركات الطيران عنتا في الأمر. ورغم الحصار في هذا المجال، سنخرج مُنتصرين لسبب واحد، وهو أن الحصار في مجال الطيران المدني غير إنساني وغير أخلاقي البتة. عندما صعدنا إلى الطائرة لتقلنا من أصفهان إلى مشهد كانت المقاعد ممتلئة عن آخرها. عشرات الرحلات الداخلية أقلعت بتتابع سريع ومتلاحق أمامنا؛ فهناك حركة طيران داخلي قوية رغم هذه المشكلة. ومع هذا التزاحم نسيت كلامَ زميلتي فقد افترقنا؛ فهي أخذت الرحلة إلى طهران. أما أنا، فكانت رحلتي إلى مدينة مشهد. شعرتُ أنَّها أيضًا نسيت ما قالته عندما شهدتْ زخم الطيران الداخلي ونشاطه. التقينا في مسقط بعد عدة أيام، وقد شاهدنا حقيقة الحصار ونتائجه الخلاقة على دولة جارة وصديقة. ويبقى السؤال: هل الغرب سيستمر في حصاره وهو يرى سوقا بثمانين مليونا يضيع من يده، بينما الصناعة الإيرانية تكاد تغطي كل حاجات المواطن الإيراني. ولم يبق إلا القليل جدًّا لتحقيق الاكتفاء الذاتي التام؟